فصل: ثاني يوم وهو يوم الأربعاء ثاني عشرينه

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تاريخ الجبرتي المسمى بـ «عجائب الآثار في التراجم والأخبار» **


 ثاني يوم وهو يوم الأربعاء ثاني عشرينه

أحضروا أيضًا يوسف كاشف دياب وقتلوه أيضًا عند باب زويلة وانقضى أمرهم والله أعلم بحقيقة الحال وفتح أهل الأسواق حوانيتهم بعد ما تخيل الناس بأنها ستكون فتنة عظيمة وان العسكر ينهبون المدينة وخصوصًا الكائنون بالعرضي خارج باب النصر فإنهم جياع وبردانون وغالبهم مفلس لأن معظمهم من الجدد الواردين الذين لم يحصل لهم كسب من نهب أو حادث واقع أدركوه ولولا أنهم أوقفوا عساكر عند الأبواب منعتهم من العبور لحصل منهم غاية الضرر‏.‏

وانقضت السنة وحوادثها التي ربما استمرت إلى ما شاء الله بدوامها وانقضائها فمنها أن الباشا لما فرغ من أمر الجهة القبلية بعدما ولى ابنه إبراهيم باشا عليها وحرر أراضي الصعيد وقاس جملة أراضيه وفدنه وضبطه بأجمعه ولم يترك منه إلا ما قل وضبط لديوانه جميع الأراضي الميرية والإقطاعات التي كانت للملتزمين من الأمراء والهوارة وذوي البيوت القديمة والرزق الأحباسية والسراوي والمتأخرات والمرصد على الأهالي والخيرات وعلى البر والصدقة وغير ذلك مثل مصارف الولاية التي رتبها أهلي الخير المتقدمون لأربابها رغبة منهم في الخير وتوسعة على الفقراء المحتاجين وذوي البيوت والدواوير المفتوحة المعدة إطعام الطعام للضيفان والواردين والقاصدين وأبناء السبيل والمسافرين فمن ذلك أن بناحية سهاج دار الشيخ عارف وهو رجل مشهور كأسلافه ومعتقد بتلك الناحية وغيرها ومنزله محط الرجال الوافدين والقاصدين من الأكابر والأصاغر والفقراء والمحتاجين فيقرى الكل بما يليق بهم ويرتب لهم التراتيب والاحتياجات وعند انصرافهم بعد قضاء أشغالهم يزودوهم ويهاديهم بالغلال والسمن والعسل والتمر والأغنام وهذا دأبه ودأب أسلافه من قبله على الدوام والاستمرار ورزقته المرصدة التي يزرعها وينفق منها ستمائة فدان فضبطوها ولم يسمحوا له منها إلا بمائة فدان بعد التوسط والترجي والتشفع وأمثال ذلك بجرجا وأسيوط ومنفلوط وفرشوط وغيرها وإذا قال المتشفع والمترجي للمتآمر ينبغي مراعاة مثل هذا ومسامحته لأنه يطعم الطعام وتنزل بداره الضيفان فيقول ومن كلفه بذلك فيقال له وكيف تفعل إذا نزلت به الضيوف على حسب ما اعتادوه فيقول يشترون ما يأكلون بدارهم من أكياسهم أو يغلقون أبوابهم ويستقلون بأنفسهم وعيالهم ويقتصدون في معايشهم فيعتادون ذلك وهذا الذي يفعلونه تبذير وإسراف ونحو ذلك على حسب حالهم وشأنهم في بلادهم ويقول الديوان أحق بهذا فإن عليه مصاريف ونفقات ومهمات ومحاربات الأعداء وخصوصًا افتتاح بلاد الحجاز ولما حضر إبراهيم باشا إلى مصر وكان أبوه على أهبة السفر إلى الحجاز حضر الكثير من أهالي الصعيد يشكون ما نزل بهم ويستغيثون ويتشفعون بوجهاء المشايخ وغيرهم فإذا خوطب الباشا في شيء من ذلك يعتذر بأنه مشغول البال واهتمامه بالسفر وأنه أناط أمر الجهة القبلية وأحكامها وتعلقاتها بابنه إبراهيم باشا وأن الدولة قلدته ولاية الصعيد فأنا لا علاقة لي بذلك وإذا خوطب ابنه أجابهم بعد المحاججة بما تقدم ذكره ونحو ذلك وإذا قيل له هذا على مسجد فيقول كشفت على المساجد فوجدتها خرابًا والنظار عليها يأكلون الإيراد والخزينة أولى منهم ويكفيهم أني أسامحهم فيما أكلوه في السنين الماضية والذي وجدته عامرًا أطلقت له ما يكفيه وزيادة وأني وجدت لبعض المساجد أطيانًا واسعة وهي خراب ومعطلة والمسجد يكفيه مؤذن واحد وأجرته نصفان وأمام مثل ذلك وأما فرشه وأسراجه فإني أرتب له راتبًا من الديوان في كل سنة فإذا تكرر عليه الرجاء أحال الأمر على أبيه ولا يمكن العود إليه لحركاته وتنقلاته وكثرة أشغاله وزوغانه ولما زاد الحال بكثرة المتشكين والواردين وبرز الباشا للسفر بل وسافر بالفعل فلم يمكث بعده ابنه إلا أيامًا قليلة يبيت بالجيزة نيلة وعند أخيه ببولاق ليلة أخرى ثم سافر راجعًا إلى الصعيد يتمم ما بقي عليه لأهله من العذاب الشديد فإنه فعل بهم فعل التتار عندما جالوا بالأقطار وأذل أعزة أهله وأساء أسوأ لسوء معهم في فعله فيسلب نعمهم وأموالهم ويأخذ أبقارهم وأغنامهم ويحاسبهم على ما كان في تصرفهم واستهلكوه أو يحتج عليهم بذنب لم يقترفوه ثم يفرض عليهم المغارم الهائلة والمقادير من الأموال التي ليست أيديهم إليها طائلة ويلزمهم بتحصيلها وغلاقها وتعجيلها فتعجز أيديهم عن الإتمام فعند ذلك يجري عليهم أنواع الآلام من الضرب والتعليق والكي بالنار والتحريق فإنه بلغني والعهدة على الناقل أنه ربط الرجل ممدودًا على خشبة طويلة وأمسك بطرفيها الرجال وجعلوا يقلبونه على النار المضرمة مثل الكباب وليس ذلك ببعيد على شاب جاهل سنه دون العشرين وحضر من بلده ولم ير غير ما هو فيه لم يؤدبه مؤدب ولا يعرف شريعة ولا مأمورات ولا منهيات وسمعت أن قائلًا قال له وحق من أعطاك قال ومن هو الذي أعطاني قال له ربك قال له إنه لم يعطني شيئًا والذي أعطاني أبي فلو كان الذي قلت فإنه كان يعطيني وأن ببلدي وقد جئت وعلى رأسي قبع مزفت مثل المقلاة فلهذا لم تبلغه دعوى ولم يتخلق إلا بأخلاق التي دربه عليها والده وهي تحصيل المال بأي وجه كان فأنزل بأهل الصعيد الذل والهوان فلقد كان به من المقادم والهوارة كل شهم يستحي الرئيس من مكالمته والنظر إليه بالملابس الفاخرة والأكراك السمور والخيول المسومة والأنعام والأتباع والجند والعبيد والأكمام الواسعة والمضايف والأنعامات والإغداقات والتصدقات وخصوصًا أكابرهم المشهورون وهمام وما أدراك ما همام وقد تقدم في ترجمته ما يغني عن الإعادة فخربت دور الجميع وتشتتوا وماتوا غرباء ومن عسر عليه مفارقة وطنه جرى عليه ما جرى على غيره وصار في عداد المزارعين وقد رأيت بعض بني همام وقد حضروا إلى مصر ليعرضوا حالهم على الباشا لعله يرفق بهم ويسامحهم في بعض ما ضبطه ابنه من تعلقاتهم يتعيشون به وهم أولاد عبد الكريم وشاهين ولدى همام الكبير ومعهم حريمهم وجواريهم وزوجة عبد الكريم ويقولون لها الست الكبيرة وهي أم أولاده فلما وصلوا إلى ساحل مصر القديمة ورأى أرباب ديوان المكس الجواري وعدتهن ثلاثة حجزوهن وطالبوهم بكمركهن فقالوا هؤلاء جوارنا للخدمة وليسوا مجلوبين للبيع فلم يعبئوا بذلك وقبضوا منهم ما قبضوه ثم أنهم لم يتمكنوا من الباشا وكان إذ ذاك قد توجه إلى الفيوم وعاد إلى العرضي مسافرًا إلى الحجاز فاستمروا بمصر حتى نفذت نفقاتهم ورأيتهم مرة مارين بالشارع وهم مخلقنون وفيهم صغير مراهق واتفق أنهم تفاقموا مع ابن عمهم وهو عمر وشكوه إلى مصطفى بك دالي باشا بأنه حاف عليهم في أشياء من استحقاقهم دعوى مفلس على مفلس فأحضره وحبسه مدة وما أدرى ما حصل لهم بعد ذلك وهكذا‏.‏

تخفض العالي وتعلى من سفل‏.‏

اللهم إنا نعوذ بك من زوال النعم ونزول النقم‏.‏

وأما من مات في هذه السنة فمات الأستاذ الشهير والجهبذ النحرير الرئيس المفضل والفريد المبجل نادرة عصره ووحيد دهره الشيخ شمس الدين محمد أبو الأنوار ابن عبد الرحمن المعروف بابن عارفين سبط بني الوفاء وخليفة السادات الحنفاء وشيخ سجادتها ومحط رحال سيداتها وشهرته غنية عن مزيد الإفصاح ومناقبه أطهر من البيان والإيضاح وأمه السيدة صفية بنت الأستاذ جمال الدين يوسف أبي الإرشاد ابن وفا وتزوج بها الخواجا عبد الرحمن المعروف بعارفين فأولدها المترجم وأخاه الشيخ يوسف وكان أسن منه فتربى مع أخيه في حجر السيادة والصيانة والحشمة وقرأ القرآن وتولع بطلب العلم وحضر دروس أشياخ الوقت وتلقى طريقه أسلافه وأورادهم وأخرابهم عن خاله الأستاذ شمس الدين محمد أبو الإشراق ابن وفا عن عمه الشيخ عبد الخالق عن أبيه الشيخ يوسف أبي الإرشاد عن والده أبي التخصيص عبد الوهاب إلى آخر السند المنتهى إلى الأستاذ أبي الحسن الشاذلي ولازم العلامة القدوة الشيخ موسى البجيرمي فحضر عليه كما ذكره في برنامج شيوخه أم البراهين وشرح المصنف عليها والآجرومية وشرحها للشيخ خالد وشرح الستين مسألة للجلال المحلي وهو أول أشياخه ثم لازم الشيخ خليلًا المغربي فحضر عليه شرح إيساغوجي لشيخ الإسلام زكريا الأنصاري وشرح العصام على السمرقندية والفاكهي على القطر ومتن التوضيح والأشموني على الخلاصة ورسالة الوضع والمغنى وحضر دروس شيخ الشيوخ الشيخ أحمد الميجري الملوي في صحيح البخاري والشيخ عبد السلام علي الجوهرة وأجازه بمروياته ومؤلفاته الإجازة العامة وكذلك إجازة الشيخ أحمد الجوهري الشافعي إجازة عامة وإجازة خاصة بطريقة مولاي عبد الله الشريف ولازم وقرأ وشارك ولده الشيخ محمد الجوهري الصغير وحضر أيضًا دروس الأستاذ الحفني في شرح التلخيص للسعد التفتازاني وشرح التحرير لشيخ الإسلام وشرح الإلفية لابن عقيل والأشموني وحضر دروس الشيخ عمر الطحلاوي المالكي في شرح الآجرومية للشيخ خالد وشيئًا من شرح الهمزية للعلامة بن حجر وشيئًا من تفسير الجلالين والبيضاوي وحضر الشيخ مصطفى السندوبي الشافعي في شرح ابن القاسم الغزي علي أبي شجاع وعلي السيد البليدي في شرح التهذيب للخبيصي وعلى الشيخ عطية الأجهوري الشافعي في شرح الخطيب علي أبي شجاع وشرح التحرير لشيخ الإسلام وتفسير الجلالين وعلى الشيخ محمد الناري شرح السلم لمصنفه وشرح التحرير وعلى الشيخ أحمد القوصي شرح الورقات الكبير لابن قاسم العبادي وسمع المسلسل بالأولية من عالم أهال المغرب في وقته الشيخ محمد بن سودة التاودي الفاسي المالكي عند وروده مصر في سنة اثنتين وثمانين ومائة وألف بقصد الحج وكتب له إجازة بخطه مع سنده وإجازة أيضًا بدلائل الخيرات وأحزاب الشاذلي وكذلك تلقي الإجازة من الأستاذ المسلك عبد الوهاب بن عبد السلام العفيفي المرزوقي وتلقى أيضًا أمام الحرم المكي الشيخ إبراهيم ابن الرئيس محمد الزمزمي الإجازة بالمسبعات واستجازه هو أيضًا بما لأسلافه من الأحزاب وكناه بأبي الفوز وذلك في سنة تسع وسبعين ومائة وألف بمكة سنة حجة المترجم‏.‏

ولما مات السيد محمد أبو هادي وانقرضت بموته سلسلة أولاد الظهور وذلك في سنة ست وسبعين ومائة وألف وتاقت نفس المترجم لخلافة بيتهم وتهيأ لذلك ولبس التاج أيضًا والعصابة التي يجعلونها عليه فلم يتم له ذلك وعورض بسيدي أحمد بن إسمعيل بك المعروف بالدالي المكني بأبي الإمداد لأنه في طبقته في النسب وأمه السيدة أم المفاخر ابنة الشيخ عبد الخالق باتفاق أرباب الحل والعقد لكونه من بيت الأمارة وقد صار منزلهم كمنازل الأمراء في الاتساع والتأنق والمجالس المزخرفة والقيعان والقصور وفي ضمنه البستان بالنخيل والأشجار وما يجتنى منها من الفواكه والثمار لأن معظم الوجاهة والسيادة في هذه الأزمان بالمساكن الأنيقة والملابس الفاخرة وكثرة الإيراد والخدم والحشم خصوصًا إن اقترن بذلك شيء من المزايا المتعدية من بذل الإحسان وإكرام الضيفان فعند ذلك يصير ربه قطب الزمان وفريد العصر والأوان فلو فرضنا أن شخصًا اجتمعت فيه أوصاف الكمالات المحنوية والمعارف الدينية وخلا عما ذكر وكان صعلوكًا قليل المال كثير العيال فلا يعد في الرجال ولا يلتفت إليه بحال حكم إلهية وأحكام ربانية فلما تقلدها سيدي أحمد المذكور دون المترجم بقي متطلعًا يسلي نفسه بالأماني ثم قصد الحج في سنة تسع وسبعين كما ذكر فلما عاد من الحج تزوج بوالدة الشيخ محمد أبي هادي وأسكنها بمنزل ملاصق لدار الخليفة توصلًا وتقربًا لمأموله ولم تطل مدة الشيخ أبي الإمداد وتوفي سنة اثنتين وثمانين كما ذكرناه في ترجمته وعند ذلك لم يبق للمترجم معارض وقد مهد أحواله وتثبت أمره مع من يخشى صولته ومعارضته من الأشياخ وغيرهم ودفن السيد أحمد وركب المترجم في صبحها مع أشياخ الوقت والشيخ أحمد البكري وجماعة الحزب ونقبائهم إلى الرباط بالخرنفش ودخل إلى خلوة جدهم فجلس بها ساعة وقرأ أرباب الحزب وظيفتهم ثم ركب مع المشايخ إلى أمير البلدة وكان إذ ذاك علي بك فخلع عليه وركبوا إلى دارهم ومحل سيادتهم المعهودة وأصبح متقلدًا خلافة أسلافهم ومشيخة سجادتهم فكان لها أهلًا ومحلًا وتقدم على أخيه الشيخ يوسف مع كونه أسن منه لما فيه من زيادة الفضيلة ولما ثبطه به من مخادعته وسلامة صدر أخيه وحسن ظنه فيه وانتظم أمره وأحسن سلوكه بشهامة وحشمة ورآسة وتؤدة وأدب مع الأشياخ والأقران وتحبب إلى أرباب المظاهر والأكابر واستجلاب الخواطر وسلوك الطرائق الحميدة والتباعد عن الأمور المخلة بالمروءة والأخذ بالحزم والرفق مع الاشتغال في بعض الأحيان بالمطالعة والمذاكرة في المسائل الدينية والأدبية ومعاشرة الفضلاء ومجالستهم والمناقشة معهم في النكات واقتناء الكتب من كل فن كل ذلك مع الجد والتحصيل للأسباب الدنيوية وما يتوصل به إلى كثرة الإيراد بحسن تداخل وجميل طريقة مبعدة عما يخل بالمقدار بحيث يقضي مرامه من العظيم وجميل الفضل له ويراسل ويكاتب ويشاحح على أدنى شيء ويحاسب ولا يدفع لأرباب الأقلام عوائدهم المقررة في الدفاتر بل يرون أخذها منه من الكبائر وكذلك دواوين المكوس المبني على الإجحاف فكل ما نسب له فيها فهو معاف وكلما طال الأمد زاد المدد وخصوصًا إذا تقلبت الدول وارتفعت السفل كان الأسبق القديم في أعينهم هو الجليل العظيم وهم لديه صغار لا ينظر إليهم إلا بعين الاحتقار ولما انقرضت بقايا الشيوخ الذين كان يهابهم ويخضع لهم ويتأدب معهم وكانوا على طرائق الأقدمين في العفة والانجماع عما يخل بتعظيم العلم وأهله والتباعد عن بني الدنيا إلا بقدر الضرورة وخلف من بعدهم من هم على خلاف ذلك وهم أعاظم مدرسي الوقت فأحدقوا به وأكثروا من الترداد عليه وعلى موائده وبالغوا في تعظيمه وتقبيل يده ومدحوه بالقصائد البليغة طمعًا في صلاته وجائزه القليلة وحصول الشهرة لهم وزوال الخمول والتعارف بمن يتردد إلى داره من الأمراء والأكابر وزاد هو أيضًا وجهًا ووجاهة بمجالستهم ولا يريهم فضلًا بسعيهم إليه ويزداد كبرًا وتيهًا وبلغ به أنه لا يقوم لأكثرهم إذا دخل عليه ومنهم من يدخل بغاية الأدب فيضم ثيابه ويقول عند مشاهدته يا مولاي يا واحد فيجيبه هو بقوله يا مولاي يا دائم يا علي يا حكيم فإذا حصل بالقرب منه بنحو ذراعين حبا على ركبتيه ومد يمينه لتقبيل يده أو طرف ثوبه وأما الأدون فلا يقبل إلا طرف ثوبه وكذلك أتباعه وخدمه الخواص وإذا كان من أهل الذمة أو كبار المباشرين وقبلوا يده وخاطبهم في أشغاله وهم قيام وانصرفوا طلب الطست والإبريق وغسل يده بالصابون لإزالة أثر أفواههم ولا يجيب في رد التحية إلا بقول خير خير ولا يقطع غالب أوقاته مع مجالسيه وخاصته ومسامريه إلا بانتقاد أهل مصره وغيبة أهل عصره وتنبسط نفسه لذلك وإليه يصغى كلا إن الإنسان ليطغى وفي سنة تسعين ومائة وألف ورد إلى مصر عبد الرزاق أفندي رئيس الكتاب ومن أكابر أهل الدولة فتداخل معه واصطحب به وأهدى إليه هدايا واستدعاء وإضافة وحضر في ذلك العام محمد باشا المعروف بالعزتي واليًا على مصر فأنهى إليه بمعونة الرئيس المذكور احتياج زاوية أسلافه للعمارة ودعا الباشا لزيارة قبورهم في يوم المولد المعتاد السنوي وذكر له المقصود وأظهر به بعض الخلل وزين له ذلك الفعل وأنه من تمام الشعائر الإسلامية والمشاهد التي يجب الاعتناء بشأنها والسعي والطواف بحرمها وكان المعين والسفير والمساعد في ذلك أيضًا شيخنا محدث العصر السيد محمد مرتضى وهو عند العثمانيين مقبول القول وكان عبد الرزاق الرئيس يتلقى عنه المسلسلات والإجازات وقرأ عليه مقامات الحريري فأجاب الباش ووعد بإتمام ذلك وكاتب الدولة وورد الأمر بإطلاق خمسين كيسًا لمصرف العمارة من خزينة مصر فشرع في هدم حوائطها ووسعها عن وضعها الأصلي واندرس في جدرانها قبور ومدافن وحوطها وزخرفها بالنقوش وأنواع الرخام الملون والمموه بالذهب والأعمدة والرخام ثم كاتب الدولة وأنهى أن ذلك القدر لم يكف وأن العمارة لم تكمل والإحسان بالإتمام فأطلقوا له خمسين كيسًا أخرى وأتمها على هذا الوضع الذي هو عليه الآن وأنشأ حولها مساكن ومخادع ووسع القصر الملاصق لها المختص به لجلوسه ومواضع الحريم أيام المولد ثم أرسل في أثر ذلك كتخداه ووزيره الشيخ إبراهيم السندوبي إلى دار السلطنة بمكاتبات وعرض لرجال الدولة والتمس رفع ما على قرية زفتا وغيرها مما في حوزه من الالتزام من المال الميري الذي يدفع إلى الديوان في كل سنة وكان إبراهيم المذكور غاية في الدهاء والحيل الساسانية والتصنعات الشيطانية والتخليطات الوهمية وتقلبات الملامية فتمم مرامه بما ابتعه من المخرقة والإيهامات الملفقة ولم يدفع ما جرت به العادة من العوائد بل اجتلب خلاف ذلك فوائد ولما حضر حسن باشا الجزايرلي إلى مصر على رأس القرن وخرج الأمراء المصريون إلى الجهة القبلية واستباح أموالهم وقبض على نسائهم وأولادهم وأمر بإنزالهم سوق المزاد وبيعهم زاعمًا أنهم أرقاء المال وفعل ذلك فاجتمع الأشياخ وذهبوا إليه فكان المخاطب له المترجم قائلًا له أنت أتيت إلى هذه البلدة وأرسلك السلطان إلى إقامة العدل ورفع الظلم كما تقول أو لبيع الأحرار وأمهات الأولاد وهتك الحريم فقال هؤلاء أرقاء لبيت المال فقال له هذا لا يجوز ولم يقل به أحد فاغتاظ غيظًا شديدًا وطلب كاتب ديوانه وقال له اكتب أسماء هؤلاء وأخبر السلطان بمعارضتهم لأوامره فقال له السيد محمود البنوفري أكتب ما تريد بل نحن نكتب اسمانا بخطنا فأفحم وانكف عن إتمام قصده وأيضًا تتبع أموالهم وودائعهم وكان إبراهيم بك الكبير قد أودع عند المترجم وديعة وكذلك مراد بك أودع عند محمد أفندي البكري وديعة وعلم ذلك حسن باشا فأرسل عسكرًا إلى السيد البكري فلم تسعه المخالفة وسلم ما عنده وأرسل كذلك يطلب من المترجم وديعة إبراهيم بك فامتنع من دفعها قائلًا أن صاحبها لم يمت وقد كتبت على نفسي وثيقة فلا أسلم ذلك ما دام صاحبها في قيد الحياة فاشتد غيظ الباشا منه وقصد البطش به فحماه الله منه ببركة الأنصار للحق فكان يقول لم أر في جميع الممالك التي ولجتها من اجترأ على مخالفتي مثل هذا الرجل فإنه أحرق قلبي ولما ارتحل إلى مصر ورجع المصريون إلى دولتهم حصل من مراد بك في حق السيد البكري ما حصل وغرمه مبلغًا عظيمًا باع فيه إقطاعه في نظير تفريطه في وديعته واحتج عليه بامتناع نظيره وحصل له قهر تمرض بسببه وتسلسل به المرض حتى مات ويقال أن مراد بك أرسل إليه الحكيم ودس له السم في العلاج ثم مات رحمه الله وكانت منه هفوة ولا بد للجواد من كبوة ومن لم ينظر في العواقب فليس له الدهر بصاحب حتى قيل أنه هو الذي عرف حسن باشا عن ذلك لينال به زيادة في الحظوة عنده ويترك منها حصة لنفسه بقرينة ما ظهر عليه في عقب ذلك من التوسع ولقد غلب على ظنه بل وظن غالب الناس انقراض المصريين وغفلوا عن تقلبات الدهر في كل حين وأما المترجم فإنه لما أخذ بالحزم سلم ورد الأمانة إلى صاحبها حين قدم وحسنت فيهم سيرته وزادت عندهم محبته وفي عقب ذلك نزل السيد محمد أفندي البكري المذكور عن وظيفة نظر المشهد الحسيني للمترجم وأرسل إليه بصندوق دفاتر الوقف وكان نظر المشهد يبيتهم مدة طويلة ووعده المترجم بأن يبدله عنه وظيفة النظر على وقف الشافعي فلما حصل الفراغ واحتوى على الدفاتر نكث وطمع على الوظيفتين بل ومد يده إلى غيرهما لعدم من يعارضه ولا يدافعه من الأمراء وغيرهم مثل نظر المشهد النفيسي والزيتي وباقي الأضرحة الكثيرة الإيراد التي يصاد بها الدنيا من كل ناد وتأتيها الخلائق بالقربانات وأنواع النذورات وأخذ يحاسب المباشرين وخدمة الأضرحة المذكورة على الإيرادات والنذورات ويحاققهم على الذرات ويسبهم ويهينهم ويضربهم بالجريد المحمص على أرجلهم وفعل ذلك بالسيد بدوي مباشر المشهد الحسيني وهو من وجهاء الناس الذين يخشى جانبهم ومشهور ومذكور في المصر وغيره وكان معظم انقباض السيد البكري ونزوله عن نظر المشهد ضيق صدره من المذكور ومناكدته له واستيلاءه على المحل ومحصول الوقف والتقصير في مصارفه اللازمة وينسب التقصير للناظر وكان رحمه الله عظيم الهمة يغلب عليه الحياء والمسامحة ويرى خلاف ذلك من سفاسف الأمور فتنصل من ذلك وترك فعله لغيره فلما أوقع المترجم بالسيد بدوي وباقي عظماء السدنة ما أوقع انقمع الباقون وذلوا وخافوه أشد الخوف ووشوا على بعضهم البعض وطفق يطالبهم بالنذور والشموع والأغنام والعجول وما يتحصل من صندوق الضريح من المال وكانوا يختصون بذلك كله وأقلهم في رفاهية من العيش وجمع المال مع السفالة والشحاذة حتى من الفقير المعدم المفلس والكسرة الناشفة وكان إذا أراد الإيقاع بشخص أو إهانته وخشي عاقبة ذلك أو لو ما يلحقه ممن ينتصر له مهد له الطريق سرًا قبل الإيقاع به فإنه لما أراد ضرب السيد بدوي طاف على الشيخ العروسي وأمثاله وأسرهم ما في نفسه وامتدت يده أيضًا إلى شهود بيت القاضي فكان إذا بلغه أن أحدهم كتب حجة استبدال وإجارة مكان مدة طويلة لناظر أم مستحق وكان ذلك المكان يؤول بعد انقراض مستحقيه لضريح من الأضرحة التي تحت نظره أحضر ذلك الكاتب ووبخه ولعنه ولربما ضربه وأبطل تلك المكاتبة ومحاها من سجل القاضي أو يصالحونه على تنفيذ ذلك مع أنها لا تؤول إلى تلك الجهة إلا بعد سنين وأعوام متطاولة وقد نص علماء الشرع على أن الوقف والنذر للقبور والأضرحة باطل فإن قيل بصحته على الفقراء قلنا أن سدنة هذه الأضرحة ليسوا بفقراء بل هم الآن أغنى الناس والفقراء حقيقة خلافهم من أولاد الناس الذين لا كسب لهم والكثير من أهل العلم الخاملين والذين يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ولما استولى المترجم على وظيفة نظر المشهد الحسيني قهر السيد بدوي المباشر المذكور وأخذ دار سكنه شرقي المسجد وأخرجه منها وهدمها وأنشأها دارًا لنفسه ينزل بها أيام المولد المعتاد ويأتي إليها في كل جمعة أو جمعتين ولما تم بناؤها ونظامها وقرب وقت أيام المولد انتقل إليها بخدمه وحريمه وتقدم إليها حكام الشرطة بأمر الناس والمناداة على أهل الأسواق والحوانيت بالسهر بالليل ووقود السرج والقناديل خمس عشرة ليلة المولد وكان في السابق ليلة واحدة وأحدثوا في تلك الليالي سيارات وجمعيات وطبولًا وزمورًا ومناور ومشاعل وجمع خلائق من أوباش العالم الذين ينتسبون إلى الطرائق كالأحمدية والسعدية والشعيبية ويتجاوبون في وسط الطبول بألفاظ مستهجنة ينادون بها مشايخ طرقهم بكلمات وعبارات تشمئز منها الطباع وأمرهم بان يمروا من تحت داره ودعا أمراء البلدة في ظرف تلك الأيام متفرقين ودعا عابدين باشا يوم المولد ولما سكن بتلك الدار وهي قبالة الميضاة والمراحيض فكان يتضرر من الرائحة فقصد إبطالها من تلك الجهة فاشترى دارًا قبلي المسجد وهي بجانب حائط المسجد الجنوبية الفاصلة بينها وبين المسجد وأدخل منها جانبًا في المسجد وزاد فيه مقدار باكية وجعلها مرتفعة عن أرض المسجد درجة لتمتاز عن البناء القديم وجعل به محرابًا وخلفه خلوة يسلك إليها من باب بصدر الليوان المذكور إلى فسحة لطيفة أمام الخلوة وبالخلوة شباك مطل على الليوان الصغير الذي بقبة الضريح وأنشأ فيما بقي من الدار ميضاة ومراحيض وفتح لها بابًا من داخل المسجد من آخره بجانب باب السبيل وأبطل الميضاة القديمة لانحراف مزاجه وتأذيه من رائحتها وعبور الناس من داخل وخارج إلى هذه الجديدة وأتت عليها عدة أيام ففاحت الروائح على المصلين ومن بالمسجد وما انضاف إلى ذلك أيضًا من البلل والتقذير من أرجل الأوباش لقربها من المسجد فلغط الناس ومن يحضر في أوقات الصلاة من أتراك خان الخليلي والتجار وشنعوا القالة وقاموا قومة واحدة وأغلقوا الباب وأبطلوا تلك الميضاة ومنعوا من دخولها وساعدهم المتصوفون من أجناسهم فانكسف بال المترجم لذلك ولم يمكنه تنفيذ فعله وأعاد الميضاة القديمة كما كانت وجعل المستجدة مربطًا للحمير يستغل أجرته بعد أن أزال تلك الميضاة ومحا أثر ذلك وكان بناء هذه الزيادة سنة ست بعد المائتين ثم زاد في منزل سكنهم زيادة من ناحية البركة المعروفة ببركة الفيل خلف البستان أخذ في تلك الزيادة مقدارًا كبيرًا من أرض البركة وأنشأ مجلسًا مربعًا متسعًا مطلًا على البركة من جهتيه وبوسطه عامود من الرخام وبلط دور قاعته بالرخام وجعل به مخدعًا وخارجه فسحة كبيرة وشبابيكها مطلة على البركة وصارت القاعة القديمة المعروفة بالغزال الملتفت بابها في ضمن الفسحة وبها باب القيطون وسمى هذه المنشية الأسعدية وبتلك الفسحة باب يدخل منه إلى منافع ومرافق ثم عن له التغيير والتبديل لأوضاع البيت من ناحية أخرى فهدم الساتر على القاعة الكبيرة وفسحتها وهي التي يسمونها بأم الأفراح وهي من إنشاء الشيخ أبي التخصيص وهي أعظم المجالس التي بدارهم مزخرفة بالنقوش الذهب والقيشاني الصيني بجميع حيطانها والرخام الملون وبها الفسقية والسلسبيل والقمريات الملونة فكشف حائطها وأدخل فسحتها في رحبة الحوش وهدم القاعة الأخرى التي كان يصعد إليها بسلم من الفسحة الأخرى وأبطل الحواصل التي أسفلها وساواها بالأرض وعمل بها فسقية بالرخام ومرافقها من داخلها وبها باب يتوصل منه إلى الحريم وسماها الأنوارية نسبة لكنيته وأمامها فسحة عظيمة ديوان بدكك وكراسي بجانب البستان وبها الطرقة والدهليز الممتد بوسط البستان الموصل إلى القاعة المسماة بالغزال والأسعدية وهدم المقعد القديم الذي به العامود وقناطره وما كان بظاهر الحاصل المسمى بحاصل السجادة من الحواصل السفلية وجعله مسجدًا يصلي فيه الجمعة وجعل فيه منبرًا للخطبة وذلك لبعد المساجد الجامعة عن داره وتعاظمه عن السعي الكثير والاختلاط بالعامة وأخذ قطعة وافرة من بيت كتخدا الجاويشية وسع بها البستان وغرس بها الأشجار والرياحين والثمار وأفنى غالب عمره في تحصيل الدنيا وتنظيم المعاش والرفاهية واقتناء كل مرغوب للنفس وشراء الجواري والمماليك والعبيد والحبوش والخصيان والتأنق في المآكل والمشارب والملابس واستخراج الأدهان والعطريات المفرحة والمنعشة للقوة وتعاظم في نفسه وتعالى على أبناء جنسه حتى أنه ترفع على لبس التاج وحضور المحيا بالأزهر ليلة المعراج وكذا الحضور في مجلس وردهم الذي هو محل عزهم وفخرهم وصار يلبس قاووقًا بعمامة خضراء تسبها بأكابر الأمراء وبعدا عن التشبه بالمتعممين والفقهاء والمقرئين ولما طالت أيامه وماتت أقرانه والذين كان يستحي منهم ويهابهم وتقلبت عليه الدول واندرجت أكابر الأمراء وتأمر أتباعهم ومماليكهم الذين كانوا يقومون على أقدامهم بين يدي مخاديمهم وأسيادهم جلوس بالأدب مع المترجم لا جرم كانت هيبته في قلوبهم أعظم من أسلافهم واستصغاره هو لهم كذلك فكان يصدعهم بالكلام وينفذ أمره فيهم ويذكر الأمير الكبير بقوله ولدنا الأمير فلان وحوائجه عندهم مقضية وكلامه لديهم مسموع وشفاعته مقبولة وأوامره نافذة فيهم وفي حواشيهم وحريماتهم واتفق أن بعض أعاظم المباشرين من الأقباط توقف معه في أمر فأحضره ولعنه وسبه وكشف رأسه وضربه على دماغه بزخمة من الجلد ولم يراع حرمة أميره وهو إذا ذاك أمير البلدة ولما شكا إلى مخدومه ما فعل به قال له ما تريد أن أصنع بشيخ عظيم ضرب نصرانيًا فرحم الله عظامهم‏.‏

واتفق أيضًا أن جماعة من أولاد البلد ووجهائها اجتمعوا ليلة بمنزل بعض أصحابهم وتباسطوا فأخذ بعضهم يسخر ويقلد بعض أصحاب المظاهر فوشى للمترجم مجلسهم وأنهم أدرجوه في سخريتهم فتسماهم وأحضرهم واحد بعد واحد وعزرهم بالضرب والإهانة فكان كل قليل يقع في بيته الضرب والإهانة لأفراد من الناس وكذلك فلاحو الحصص التي حازها والتزم بها فإنه زادني خراجهم عن شركائه ويفرض عليهم زيادات ويحبسهم عليها شهورًا ويضربهم بالكرابيج وبالجملة فقد قلب الوضع وغير الرسم المطبوع بعد أن كان منزلهم محل سلوك ورشاد وولاية واعتقاد فصار كبيت حاكم الشرطة يخافه من غلط أدنى غلطة ويتحاماه الناس من جميع الأجناس وجلساؤه ومرافقوه لا يعارضونه في شيء بل يوافقونه ولا يتكلمون معه إلا بميزان وملاحظة الأركان ويتأدبون معه في رد الجواب وحذف كاف الخطاب ونقل الضمائر عن وضعها في غالب الألفاظ بل كلها حتى في الآثار المروية والأحاديث النبوية وغير ذلك من المبالغات وتحسين العبارات والوصف بالمناقب الجليلة والأوصاف الجميلة حتى أن السيد حسينًا المنزلاوي الخطيب كان ينشئ خطبًا يخطب بها يوم الجمعة التي يكون المترجم حاضرًا فيها بالمشهد الحسيني وبزاويتهم أيام المولد ويدرج فيها الإطراء العظيم في المترجم والتوسل به في كشف المهمات وتفريج الكروب وغفران الذنوب حتى أني سمعت قائلًا يقول بعد الصلاة لم يبق على الخطيب إلا أن يقول اركعوا واسجدوا واعبدوا شيخ السادات ولما قدمت الفرنساوية إلى الديار المصرية في أوائل سنة ثلاث عشرة ومائتين وألف لم يتعرضوا له في شيء وراعوا جانبه وأفرجوا عن تعلقاته وقبلوا شفاعاته وتردد إليه كبيرهم وأعاظمهم وعمل لهم ولائم وكنت أصاحبه في الذهاب إلى مساكنهم والتفرج على صنائعهم ونقوشهم وتصاويرهم وغرائبهم إلى أن حضر ركب العثمانيين في سنة خمسة عشرة وحصلت بينهم المصالحة على انتقال الفرنساوية من أرض مصر ورجوعهم إلى بلادهم على شروط اشترطوها بينهم وبين وزير الدولة العثمانية‏.‏

ومنها حسابات تدفع إليهم وأخرى تخصم عليهم وظن المترجم وخلافه إتمام الأمر والارتحال لا محالة فعند ذلك لحقه الطمع فذكر مصلحة دفعها لكاتب جيشهم في نظير الإفراج عن تعلقاته وأرسل يطلبها من بوسليك مدبر الجمهور وكذلك ما قبضه ترجمانه فقال هذه عوائد لا بد منها ودخلت في حساب الجمهور وتغير خاطرهم منه وكانت منه هفوة ترتب عليها بينهم وبينه الجفوة ولما انتقض الصلح وحصلت المفاقمة ووقعت المحاربة في داخل المدينة وتترست العساكر الإسلامية وأهل البلد في النواحي والجهات وانقطع الجالب عن أهل البلد مدة ستة وثلاثين يومًا التزم أغنياء الناس وأصحاب المظاهر الإطعام والإنفاق على المحاربين والمقاتلين في جهتهم ونواحيهم والتزم المترجم كغيره الإنفاق على من حوله فلما انقضت أيام المحاربة وانتصر الفرنساوية ورجع الوزير ومن معه إلى جهة الشام منهزمين فعند ذلك انتقم الفرنساوية من المبارزين لهم بأخذ المال بدلًا عن الأرواح وقبضوا على المترجم وحبسوه وأهانوه أيامًا وفرضوا عليه قدرًا عظيمًا من المال قام بدفعه كما ذكرنا ذلك مفصلًا في محله وقيل أن الذي زاد الفرنساوية إغراء به مراد بك حين اصطلح معهم وعمل لهم ضيافة ببر الجيزة وسببه أنه لما دهمت الفرنساوية وطلعوا الإسكندرية ووصل الخبر إلى مصر اجتمع الأمراء بالمساطب وطلبوا المشايخ ليشاوروا في هذا الحادث فتكلم المترجم وخاطبهم بالتوبيخ وقال كل هذا سوء فعالكم وظلمكم وآخر أمرنا معكم ملكتمونا للإفرنج وشافه مراد بك وخصوصًا بأفعالك وتعديك أنت وأمرائك على متاجرهم وأخذ بضائعهم وإهانتهم فحقدها عليه وكتمها في نفسه حتى اصطلح مع الفرنساوية وألقى إليهم ما ألقاه ففعلوا ما ذكر وذلك في ثاني يوم الضيافة فلما رجع العثمانية في السنة الثانية إلى مصر بمعونة الإنكليز وصاروا بالقرب من المدينة حبسوا المترجم مع من حبس بالقلعة من أرباب المظاهر خوفًا من إحداثهم فتنة بالبلدة ومات ولده الذي كان سماه محمدًا نور الله وهو معوق ومميوع فأذنوا له في حضور جنازة ولده فنزل وصحبته شخص حرسي منهم فلازمه حتى واراه وعاد به ذلك الحرسي إلى القلعة وكان هذا الولد مراهقًا له من العمر اثنتا عشرة سنة كان في أمله أن يكون هو الخليفة في بيتهم بعده ويأبى الله إلا ما يريد ولما انفصل الأمر وارتحل الفرنساوية من أرض مصر ودخل إليها يوسف باشا الوزير ومن معه تقدم المترجم يشكو إليه حاله وما أصابه وادعى الفقر والإملاق مع أن الفرنساوية لم يحجزوا عنه شيئًا من تعلقاته وإيراده وجعل شكواه وما حصل له سلمًا للإفرنج عن جميع تعلقاته وإيراده من غير حلوان كغيره من الناس وزاد على ذلك أشياء ومطالب ومسامحات ودعا الوزير إلى داره وأفراد رجال الدولة الذين بيدهم مقاليد الأمور وعاد إلى حالته في التعاظم والكبرياء وارتحل الوزير بعد استقرار محمد باشا خسرو على ولاية مصر وكان سموحًا وكذلك شريف أفندي الدفتردار فرمح في غفلتهما واستكثر في التحصيل والإيراد إلى أن تقلبت الأحوال وعادت للمصريين في سنة ثمان عشرة ثم خروجهم وما وقع من الحوادث التي تقدم ذكرها واستقر محمد علي باشا وثبتت قدمه بمعونة العامة والسيد عمر مكرم بمملكة مصر وشرع في تمهيد مقاصده فكان السيد عمر يمانعه فدبر على إخراجه من مصر وجمع المشايخ وأحضر المترجم وخلع عليه وقلده النقابة واخرج السيد عمر من مصر منفيًا إلى دمياط وذلك في سنة أربع وعشرين كما تقدم ووافق فعله ذلك عرض المترجم بل ربما كان بمعونته لحقده الباطني على السيد عمر وتشوفه إلى النقابة وادعائه أنها كانت ببيتهم لكون الشيخ أبي هادي تولاها أيامًا ثم تولاها بعده أبو الإمداد ثم نزل عنها لمحمد أفندي البكري الكبير فلم يزل في نفس المترجم التطلع لنقابة الإشراف ويصرح بقوله أنها من وظائفنا القديمة وأحضر بها مرسومًا من دار السلطنة وأخفاه ولم يظهره مدة حياة محمد أفندي البكري الكبير فلما مات وتقلدها ولده محمد أفندي ادعاها وأظهر المرسوم وشاع خبر ذلك فاجتمع الجم الغفير من الأشراف بالمشهد الحسيني ممانعين وقائلين لا نرضاه نقيبًا ولا حكمًا علينا فلم يتم مراده فلما توفي محمد أفندي الصغير ظن أنه لم يبق له فيها منازع فلا يشعر إلا وقد تقلدها السيد عمر بمعونة مراد بك وإبراهيم بك لصحبته معهما ومرافقته لهما في الغربة حين كان المصريون بالصعيد فسكت على ضغن وغيظ يخفيه تارة ويظهره أخرى وخصوصًا وهو يرى أن السيد عمر في ذلك دون ذلك بكثير فلما خرج الفرنساوية ودخل الوزير إلى مصر وصحبته السيد عمر متقلدًا للنقابة كما كان وانفصل عنها السيد خليل البكري وارتفع شأن السيد عمر وزاد أمره بمباشرة الوقائع وولاية محمد علي باشا وصار بيده الحل والعقد والأمر والنهي والمرجع في الأمور الكلية والجزئية والمترجم يحقد عليه في الباطن ويظهر له خلافه وهو ولكنني أخشاه وهو يخافني فيخفي ويبدو بيننا البغض والود فلما أخرج الباشا السيد عمر وتقلد المترجم النقابة وبلغ مأموله عند ذلك أظهر الكامن في نفسه وصرح بالمكروه في حق السيد عمر ومن ينتمي إليه أو يواليه وسطر فيه عرضًا محضرًا إلى الدولة نسب إليه أنواعًا من الموبقات التي منها أنه أدخل جماعة من الأقباط في الأشراف وقطع أناسًا من الشرفاء المستحقين وصرف راتبهم للأقباط المدخلين ومنها أنه تسبب في خراب الإقليم وإثارة الفتن وموالاة البغاة المصريين وتطميعهم في المملكة حتى أنه وعدهم بالهجوم على البلدة يوم قطع الخليج في غفلة الباشا والناس والعساكر وأنه هو الذي أغرى المصريين على قتل علي باشا برغل الطرابلسي حين قدم واليًا على مصر وهو الذي كاتب الإنكليز وطمعهم في البلاد مع الألفي حين حضروا إلى إسكندرية وملكوها ونصر الله عليهم العساكر الإسلامية وغير ذلك من عبارات عكس القضية وتمنيق الأغراض النفسانية وكتب الأشياخ عليه خطوطهم وطبعوا تحتها ختومهم ما عدا الطحطاوي الحنفي فإنه تنحى عن الشرور وامتنع من شهادة الزور فأوسعوه سخطًا ومقتًا وعزلوه من الأفتا وقد تقدم خبر ذلك في حوادث سنة أربع وعشرين وإنما المعنى بإعادة ذلك لك هنا تتمة لترجمة المشار إليه وحذار من نقصها النسيان لأكثر جملها فلو سلمت الفكرة من النسيان لفاقت سيرته كان وكان وفي سنة ست وعشرين أنشأ دارًا عظيمة بجانب المنزل وصرف جملًا من المال وأنشأ بها مجالس وقاعات ورواشن ومنافع ومرافق وفساقي وأنشأ فيها بستانًا غرس فيه أنواع الأشجار المثمرة وأدخل به ما حازه من دور الأمراء المتخربة وكان السيد خليل البكري اشترى دارًا بدرب الفرن وذلك بعد خروج الفرنساوية وخمول أمره وعزله من مشيخة البكرية والنقابة وأنشأ بها بستانًا أنيقًا وأنشأ قصرًا برسم ولده مطلًا على البستان فلما توفي السيد خليل تعدى على ولده سيدي أحمد وقهره وأخذ منه ذلك البستان بأبخس الأثمان وخلطه ببستان الدار الجديد وبنى سوره وأحاطه وأقام حائطًا بينه وبين دار المذكور وطمسها وأعماها وسدت الحائط شبابيك ذلك القصر وأظلمته ولم يزل كلما طال عمره زاد كبره وقل بره وتعدى شره ولما ضعفت قواه تقاعد عن القيام لأعاظم الناس إذا دخل عليه محتجًا بالإعياء والضعف ولازم استعمال المنعشات والمركبات المفرحة ولا يصلح العطار ما أفسد الدهر‏.‏ وفي